فصل: فصـــل: القصاص في الجراح

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصـــل

والقصاص في الجراح ـ أيضًا ـ ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بشرط المساواة؛ فإذا قطع يده اليمني من مفصل، فله أن يقطع يده كذلك‏.‏ وإذا قلع سِنَّه، فله أن يقلع سنه‏.‏ وإذا شَجَّه في رأسه أو وجهه، فأوضح العظم، فله أن يشجه كذلك‏.‏ وإذا لم تمكن المساواة؛ مثل أن يكسر له عظمًا باطنًا، أو يشجه دون الموضحة، فلا يشرع القصاص، بل تجب الدية المحدودة، أو الأرش‏.‏ وأما القصاص في الضرب بيده أو بعصاه أو سوطه، مثل أن يلطمه، أو يلكمه، أو يضربه بعصا، ونحو ذلك؛ فقد قالت طائفة من العلماء‏:‏ إنه لا قصاص فيه، بل فيه التعزير؛ لأنه لا تمكن المساواة فيه‏.‏

والمأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين‏:‏ أن القصاص مشروع في ذلك، وهو نص أحمد وغيره من الفقهاء، وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب‏.‏ قال أبو فراس‏:‏ خطب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فذكر حديثًا قال فيه‏:‏ ألا إني والله ما أرسل عمالى إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا /ليأخذوا أموالكم؛ ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم‏.‏ فمن فعل به سوي ذلك فليرفعه إلى، فوالذي نفسي بيده، إذا لأقصنه منه، فوثب عمرو بن العاص، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، إن كان رجل من المسلمين أُمِّـر على رعية فأدب رعيته، أئنك لتقصه منه‏؟‏ قال‏:‏ إي والذي نفس محمد بيده، إذا لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه‏.‏ ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم‏.‏ رواه الإمام أحمد وغيره‏.‏

ومعني هذا، إذا ضرب الوإلى رعيته ضربًا غير جائز‏.‏ فأما الضرب المشروع، فلا قصاص فيه بالإجماع، إذ هو واجب، أو مستحب، أو جائز‏.‏

 فصـــل

والقصاص في الأعراض مشروع ـ أيضًا ـ وهو أن الرجل إذا لعن رجلاً أو دعـا عليه، فله أن يفعل به كذلك، وكذلك إذا شتمه بشتمة لا كذب فيها‏.‏ والعفو أفضل‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ على اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عليهم مِّن سَبِيلٍ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 40، 41‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ /‏(‏المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم‏)‏‏.‏ ويسمى هذا الانتصار‏.‏ والشتيمة التي لا كذب فيها مثل الإخبار عنه بما فيه من القبائح، أو تسميته بالكلب أو الحمار ونحو ذلك‏.‏ فأما إن افتري عليه، لم يحل له أن يفتري عليه، ولو كفره أو فسقه بغير حق لم يحل له أن يكفره أو يفسقه بغير حق، ولو لعن أباه أو قبيلته، أو أهل بلده ونحو ذلك، لم يحل له أن يتعدي على أولئك، فإنهم لم يظلموه‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏، فأمر الله المسلمين ألا يحملهم بغضهم للكفار على ألا يعدلوا، وقال‏:‏ ‏{‏اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي‏}‏‏.‏

فإن كان العدوان عليــه في العــرض محرمًا لحقــه؛ لما يلحقه من الأذى، جاز الاقتصاص منه بمثله؛ كالدعاء عليه بمثل ما دعاه، وأما إذا كان محرمًا لحق الله ـ تعالى ـ كالكذب، لم يجز بحال، وهكذا قال كثير من الفقهاء‏:‏ إذا قتله بتحريق، أو تغريق، أو خنق أو نحو ذلك، فإنه يفعل به كما فعل، ما لم يكن الفعل محرمًا في نفسه كتجريع الخمر واللواط به‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ لا قود عليه إلا بالسيف‏.‏ والأول أشبه بالكتاب والسنة والعدل‏.‏

/ فصــــل

وإذا كانت الفرية، ونحوها لا قصاص فيها، ففيها العقوبة بغير ذلك‏.‏ فمنه حد القذف الثابت في الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4، 5‏]‏‏.‏

فإذا رمي الحر محصنًا بالزنا واللواط فعليه حد القذف، وهو ثمانون جلدة، وإن رماه بغير ذلك عوقب تعزيرًا‏.‏

وهذا الحد يستحقه المقذوف، فلا يستوفي إلا بطلبه باتفاق الفقهاء‏.‏ فإن عفا عنه سقط عند جمهور العلماء؛ لأن المغلب فيه حق الآدمي، كالقصاص والأموال‏.‏ وقيل‏:‏ لا يسقط، تغليبًا لحق الله، لعدم المماثلة، كسائر الحدود‏.‏ وإنما يجب حد القذف إذا كان المقذوف محصنًا، وهو المسلم الحر العفيف‏.‏

فأما المشهور بالفجور فلا يحد قاذفه، وكذلك الكافر والرقيق،/ لكن يعزر القاذف، إلا الزوج فإنه يجوز له أن يقذف امرأته إذا زنت ولم تحبل من الزنا‏.‏ فإن حبلت منه وولدت فعليه أن يقذفها، وينفي ولدها؛ لئلا يلحق به من ليس منه‏.‏ وإذا قذفها فإما أن تقر بالزنا، وإما أن تلاعنه، كما ذكره الله في الكتاب والسنة‏.‏ ولو كان القاذف عبدًا فعليه نصف حد الحر، وكذلك في جلد الزنا وشرب الخمر؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال في الإماء‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعليهِنَّ نِصْفُ مَا على الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وأما إذا كان الواجب القتل، أو قطع اليد، فإنه لا يتنصف‏.‏

 فصــــل

ومن الحقوق الأبضاع، فالواجب الحكم بين الزوجين بما أمر الله ـ تعالى ـ به، من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏.‏ فيجب على كل من الزوجين أن يؤدي إلى الآخر حقوقه، بطيب نفس وانشراح صدر؛ فإن للمرأة على الرجل حقًا في ماله، وهو الصداق والنفقة بالمعروف‏.‏ وحقًا في بدنه، وهو العشرة و المتعة؛ بحيث لو إلى منها استحقت الفرقة بإجماع المسلمين، وكذلك لو كان مجبوبًا أو عنينًا لا يمكنه جماعها فلها الفرقة؛ ووطؤها واجب عليه عند أكثر العلماء‏.‏

/وقد قيل‏:‏ إنه لا يجب اكتفاء بالباعث الطبيعي‏.‏ والصواب‏:‏ أنه واجب، كما دل عليه الكتاب والسنة والأصول‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنه لما رآه يكثر الصوم والصلاة‏:‏ ‏(‏إن لزوجك عليك حقًا‏)‏‏.‏

ثم قيل‏:‏ يجب عليه وطؤها كل أربعة أشهر مرة‏.‏ وقيل‏:‏ يجب وطؤها بالمعروف، على قدر قوته وحاجتها‏.‏ كما تجب النفقة بالمعروف كذلك، وهذا أشبه‏.‏

وللرجل عليها أن يستمتع منها متى شاء، ما لم يضر بها، أو يشغلها عن واجب‏.‏ فيجب عليها أن تمكنه كذلك‏.‏

ولا تخرج من منزله إلا بإذنه، أو بإذن الشارع‏.‏ واختلف الفقهاء‏:‏ هل عليها خدمة المنزل كالفرش والكنس والطبخ ونحو ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ يجب عليها‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجب‏.‏ وقيل‏:‏ يجب الخفيف منه‏.‏

 فصــــل

وأما الأموال، فيجب الحكم بين الناس فيها بالعدل كما أمر الله ورسوله، مثل قسم المواريث بين الورثة، على ما جاء به /الكتاب والسنة‏.‏

وقد تنازع المسلمون في مسائل من ذلك‏.‏ وكذلك في المعاملات من المبايعات والإجارات والوكالات والمشاركات والهبات والوقوف والوصايا، ونحو ذلك من المعاملات المتعلقة بالعقود والقبوض، فإن العدل فيها هو قوام العالمين، لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به‏.‏

فمن العدل فيها ما هو ظاهر، يعرفه كل أحد بعقله، كوجوب تسليم الثمن على المشتري، وتسليم المبيع على البائع للمشتري، وتحريم تطفيف المكيال والميزان، ووجوب الصدق والبيان، وتحريم الكذب والخيانة والغش، وأن جزاء القرض الوفاء والحمد‏.‏

ومنه ما هو خفي، جاءت به الشرائع أو شريعتنا ـ أهل الإسلام ـ فإن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل، والنهى عن الظلم‏:‏ دِقه وجُله؛ مثل أكل المال بالباطل‏.‏ وجنسه من الربا والميسر‏.‏ وأنواع الربا والميسر التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ مثل بيع الغرر، وبيع حبل الحبلة، وبيع الطير في الهواء، والسمك في الماء، والبيع إلى أجل غير مسمي، وبيع المصراة، وبيع المدلس، والملامسة، والمنابذة، والمزابنة، والمحاقلة، والنجش، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وما نهى عنه من أنواع المشاركات /الفاسدة، كالمخابرة بزرع بقعة بعينها من الأرض‏.‏

ومن ذلك ما قد تنازع فيه المسلمون لخفائه واشتباهه، فقد يري هذا العقد والقبض صحيحًا عدلاً، وإن كان غيره يري فيه جورًا يوجب فساده، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ واليوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً اْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه، كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله، إلا ما دل الكتاب والسنة على شرعه؛ إذ الدين ما شرعه الله، والحرام ما حرمه الله، بخلاف الذين ذمهم الله، حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله، وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانًا، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله‏.‏ اللهم وفقنا لأن نجعل الحلال ما حللته،والحرام ما حرمته، والدين ما شرعته‏.‏